الزمن القادم المجموعة الثالثة د. عبد الملك القاسم بسم الله الرحمن الرحيم الوداع (1) قال الحسن: إني لأستحي من ربي عزّ وجلّ أن ألقاه ولم أمشِ إلى بيته.. فمشى عشرين مرة من المدينة على رجليه. ----------------- لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.. هرول ملبياً النداء.. قال وهو يستحثني لأداء فريضة الحج ماذا تنتظرين!؟ وإلى متى تؤجلين!؟ إنها فرصة واحدة كل عام.. وهذا ركنٌ من أركان الإسلام.. ما عذركِ في التأخير.. الآن السبل مُيسرة والمواصلات سهلة.. والأمن متوفرة.. تباطأت أبحث عن عذر.. قال.. أما سمعتي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (.. الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) إنه أجرٌ وثوابٌ يملأ القلب همةً ونشاطاً.. وسروراً وحبوراً.. أقبلت الأعمال كالجبال.. وسارت نحوي الأعذار.. عاد صوته مرة أخرى وبحماس أكثر وهو يقول.. فرصةٌ لا تعوض.. لا تترددي.. قلت له.ز هذا قرار سريع.. انتظر.. دعني أفكر.. ثم مع من نذهب؟! وكيف نذهب؟! وأين نسكن؟! وانطلقت الأسئلة كسيل جارف.. ماذا نفعل.. هناك زحام.. وهذا العام الحر شديد.. والحجاج كثير؟! فاجأني بصوته الهادئ.. الأمر مُيسر.. يُسهل الله كل عسي. سهل الله الأمر.. الأعمال التي كانت أمام عيني كالجبال تلاشت.. والأعذار المتلاطمة كالأمواج اختفت.. قررت مرافقته في رحلة الحج.. وهل هناك أجمل من رفقة زوج في سفر طاعة.. مضت ثلاث سنوات على زواجي.. ثلاث سنوات كان عوناً لي وكنت عوناً له على الطاعة. إذا نسي ذكرته وإذا قصرت نبهني.. لازلت أتذكر الأيام الأولى لزواجي.. وأصابع يده تلتقط مقصاً صغيراً.. سألته.. لماذا هذا المقص؟! قال وهو يخفي ابتسامته.. بعض زوائد لحيت أقصها!! سألته باستغراب.. لماذا هذا تقصها؟! قال.. أتجمل لكِ!! تتجمل لي بمعصية الله؟ نِعمَ الرجل.. امتثال سريع وتوبة من قريب.. أعادت يده المقص إلى مكانه ولم تعد له مرة ثانية منذ ذلك اليوم.. في أيام منى.. كطفلة صغيرة تُمسك بأبيها خائفة مذعورة لم تترك يدي معصمه ولا كفه.. أستمد حناناً لم أره في حياتي.. ويؤنسني صوته وهو يذكر الله.. المخيم يعج بالحجاج نساءً ورجالاً.. سبل الراحة متوفرة.. وكل يوم بعد صلاة المغرب محاضرة.. ثلاثة أيام مرت مليئة بالدعاء والاستغفار.. هنا لا فرق بين الليل والنهار.. لا تسمع إلا أصوات الحجيج وجبال مكة وأديتها تردد صدى تلك التكبيرات والتلبيات.. في منتصف الليل.. الأصوات تتعالى.. والتكبيرات تتوالى قال لي.. سنطوف ونسعى هذه الليلة.. أظهر حرصه الشديد عليّ عند الطواف.. فأنا حامل تعالِ من هنا.. لا تتعبي نفسك.. لا تجهدي جسمك دعوت الله وأنا أطوف بالكعبة أن يرزقني طفلاً صالحاً.. سرت مع الزمن.. ربما يكون معنا العام القادم هنا!! في آخر ليلة لنا في مكة.. ذهبنا لطواف الوداع اللهم لا تجعل هذا آخر العهد ببيتك العظيم وأرسلت الدمع منحدرا.. وحينما تذكرت حديث الشيخ مساء البارحة في المخيم عن فضل الحج وهو يذكر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.. (من حجّ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) كبّرت.. الله أكبر.. ما مر بك من ذنوب تغفر.. وما أصابك من زلات تستر. حمدت الله على هذا الخير العظيم.. ودعوت الله بذلة وانكسار أن أكون من المقبولين.. وأنا أكحل عيني برؤية البيت العتيق.. سقطت دمعة وداع.. وبثثت حديث النفس هل يا ترى سأعود؟! وأكحل عيني مرة أخرى.. هل سأسعى بين الصفا والمروة.. وأروي ظمأي من ماء زمزم سكبت الدموع والعبرات.. وأنا أغادر مكة مودعة.. وأي وداع وأنت تودع الحرم والمقام.. اتجهنا إلى مطار جدة.. الزحام شديد والأصوات مرتفعة والإعلان عن الرحلات يتم بشكل متتابع.. إنصات عجيب.. لا ترى غلا تذكرة وحقيبة مع كل مسافر.. وترقب يعلو الوجوه.. ولهفة في العيون.. وآذانٌ تستمع.. متى موعد الإقلاع؟! ولأننا في حملة كبيرة فقد تخلف البعض عن الرحلة لعدم وجود مقاعد.. وكان من المتأخرين.. زوجي.. وصلنا إلى مطار الرياض وأخذنا جانباً من الصالة ونحن ننتظر مع الحجاج بقية أقاربنا طال انتظارنا.. وعندما أعلن عن وصول الرحلة القادمة.. حمدت الله وتدافعنا ننظر في وجوه القادمين.. وصل الجميع إلا زوجي.. أحد الحجاج ممن كان معنا.. أتى وهو متردد في الكلام.. بطيء الحديث وأخبرنا.. أن زوجي سيتأخر لرحلة قادمة.. وأشار علينا أن نذهب بدلاً من الانتظار.. تساءلت في نفسي.. ولماذا هو الوحيد الذي لم يعد!؟ عندما وصلت فإذا بالهاتف يخبرنا أن زوجي أصابه إرهاق وتعب.. وقالوا.. هذا أمرٌ طبيعيٌ بعد الحج.. وقد ذهب به أحد الاخوة ممن كان معنا في المخيم إلى المستشفى.. انقطعت الأخبار إلا عن طريق الهاتف.. وأخبار تأتي مجملة.. ومتفرقة.. ومتأخرة!! تسارعت الأحداث وشعرت أن الأمر كبير.. بدأت وفود الأقارب وحديثهم يذكرني بالموت ووجوب الصبر.. وكأن الأمر كذلك؟! في مغرب ذلك اليوم.. وقد اعتلى الحزن هامتي.. وطرق الخوف قلبي.. أقبل رجلٌ وقور جاوز السبعين.. يلتحف عباءة ويمسك بيده عصا.. سلم عليّ وقبل رأسي.. وسألني عن حالي.. ثم دوى صوته الهامس في أذني.. احمدي الله.. لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بمقدار.. قولي.. اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها.. خفض صوته.. واغرورقت عيناه بالدموع وقال.. مات عبد الله.. وضعت رأسي على صدري.. وكتمت صوتي.. وأرسلت دمعي لا تزال بقايا رائحته في يدي.. بل وحتى قلمه وبعض أوراقه في حقيبتي.. بل ولباس إحرامه أرى ثيابه في مكانها.. وحذاءه.. بل وكلماته الطيبة تعاودني في كل حين.. هناك سجادته التي يقوم فيها مصلياً لله في السحر.. هنا أوراق التقويم التي يمزقها كل يوم بيده وهو يردد.. هذه أعمارنا.. في كل مكان له أثر.. وفي كل أمر له خبر.. في تلك الأيام سقطت دمعتي.. وسقط جنيني.. يجدد الحظن ويرسل الدمع.. ما أتذكره من دعائه قبل الفجر.. رحمه الله على ما صام تلك الهواجر.. وغفر له على ما قام تلك الليالي.. وتجاوز عن سيئاته مثل ما تجاوز عن تقصيري وزلاتي.ز ثلاث سنوات عشتها معه هانئة شاكرة.. أجدد التوبة فيها كل يوم.. وبفراقه جددت التوبة وأنا أرى بعيني نهاية الدنيا.. وفجأة الموت.. يتجدد أملي.ز تعتادني فرحتي.. وأنا أرفع يدي بالدعاء.. أن يكون الملتقى جنات عدن.. هناك.. حياة لا موت فيها ونعيم لا شقاء بعده حمدت الله على خاتمته الطيبة.. فقد كان في عبادة ملبياً مكبراً.. وعندما ترددت أصوات التكبير داخل الحرم تصلي عليه.. وهو مسجى أمام الكعبة.. حمدت الله على هذا الفضل العظيم.. تقبل الله حجه وسعيه.. وغفر زلته.. ورفع درجته. حمدت الله بقي لي في الحياة متسع.. لا تجزعي (2) قال أحمد بن عاصم:هذه غنيمةٌ باردة، أصلح ما بقي من عمرك يُغفر لك ما مضى. ----------------- في زمن الجهل.. أو زن الغفلة.. سمّه ما شئت عشت في سباتٍ عميق.. ونومٍ متصل.. ليلٌ لا فجر له.. وظلامٌ ل إشراق فيه.. الواجبات لا تعني شيئاً.. والأوامر والنواهي ليست في حياتي. الحياة متعةٌ.. ولذة.. الحياة.. هي كل شيء.. غردت لها.. وشدوت لها.. الضحكة تسبقني.. والأغنية على لساني.. انطلاق بلا حدود.. وحياة بلا قيود.. عشرون سنة مرت.. كل ما أريده بين يديّ.. وعند العشرين.. أصبحت وردة تستحق القطاف.. من هو الفارس القادم؟ مواصفات.. وشروط..!! أقبل.. تلُفه سحابة دخان.. ويسابقه.. صوت الموسيقى.. من نفس المجتمع.. ومن النائمين مثلي.. من توسد الذنب.. والتحف المعصية.. الطيور على أشكالها تقع.. طار بي في سماء سوداء.. معاصي.. ذنوب.. غردنا.. شدونا.. أخذنا الحياة طولاً وعرضاً.. لا نعرف لطولها نهاية.. ولا لعرضها حدّا.. اهتماماتنا واحدة.. وطبائعنا مشتركة.. نبحث عن الأغنية الجديدة.. ونتجادل في مشاهدة المباريات.. هكذا.. عشر سنوات مضت منذ زواجي كهبات النسيم تلفح وجهي المتعب.. سعادةٌ زائفة!! في هذا العام يكتمل من عمري ثلاثون خريفاً.. كلها مضت.. وأنا أسير في نفق مظلم.. كضوء الشمس عندما يغزو ظلام الليل ويبدده.. كمطر الصيف.ز صوت رعد.. وأضواء برق.. يتبعه.. انهمار المطر.. كان الحُلم يرسم القطرات.. والفرح.. قوس قزح.. شريط قّدِّم لي من أعز قريباتي.. وعند الإهداء قالت.. إنه عن تربية الأبناء. تذكرت أنني قد تحدثت معها عن تربية الأبناء منذ شهور مضت.. وربما أنها اهتمت بالأمر.. شريط الأبناء.. سمعته.. رغم أنه اليتيم بن الأشرطة الأخرى التي لدي.ز سمعته مرة.. وثانية.. لم أعجب به فحسب.. بل من شدة حرصي.. سجلت نقاطاً منه على ورقة.. لا أعرف ماذا حدث لي.. إعصار قوي.. زحزح جذور الغفلة من مكانها وأيقظ النائم من سباته.. لم أوقع هذا القبول من نفسي.. بل وهذا التغير السريع.. لم يكن لي أن أستبدل شريط الغناء بشريط كهذا!! طلبت أشرطة أخرى.. بدأت أصحو.. وأستيقظ.. أُفسّر كل أمر.. إلا الهداية.. من الله.. وكفى.. هذه صحوتي.. وتلك كبوتي.. هذه انتباهتي.. وتلك غفوتي ولكن ما يؤلمني.. أن بينهن.. ثلاثين عاماً من عمري مضت.. وأنّى لي بعمرٍ كهذا للطاعة؟ دقات قلبي تغيرت.. ونبضات حياتي اختلفت.. أصبحت في يقظة.. ومن أولى مني بذلك.. كل ما في حياتي من بقايا السبات أزحته عن طريقي.. كل ما يحويه منزلي قذفت به.. كل ما علق بقلبي أزلته.. قال زوجي.. وقد هاله الأمر.. أنت مندفعة.. ولا تُقدرين الأمور!! من أدخل برأسك أن هذا حرام.. وهذا حرام.. بعد عشر سنوات تقولين هذا..؟! متى نزل التحريم..؟ قلت له.. هذا أمر الله وحُكمه.. نحن يا زوجي في نفق مظلم.. ونسير في منحدر خطير.. من اليوم.. بل من الآن يجب أن تحافظ على الصلاة.ز نطق الشيطان على لسانه.. هكذا مرة واحدة؟ قلت له بحزم.. نعم ولكن سباته عميق.. وغفلته طويلة لم يتغير.. حاولت.. جاهدت.. شرحت له الأمر.. دَعَوتُ له.. ربما.. لعل وعسى.. خوفته بالله.. والنار.. والحساب والعقاب.. بحفرة مظلمة.. وأهوال مقبلة ولكن له قلبٌ كالصخر.. لا يلين!! في وسط حزنٍ يلفني.. وخوف من الأيام لا يفارقني عنيٌ علي أبنائي.. وعين تلمح السراب.. مع زوج لا يصلي وهناك بين آيات القرآن.. نارٌ تؤرقني.. (ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين) حدثته مرات ومرات.. وأريته فتوى العلماء.. قديماً وحديثاً من لا يصلي يجب أن تفارقه زوجته لأنه كافر ولن أقيم مع كافر.. التفت بكل ببرود وسخرية وهو يلامس جُرحاً ينزف قلب.. (اللهُ خير حافظاً وهو أرحم الراحمين) كحبات سبحة.. انفرط عقدها.. بدأت تتتابع المصائب.. السخرية.. ولإهانة.. التهديد.. والوعيد لن ترينهم أبداً.. أبداً أمور كثيرة.. بدأت أعاني منها..وأكبر منها.. أنه لا يُصلي!! وماذا يُرجى من شخص لا يُصلى؟ عشت في دوامة لا نهاية لها.ز تقض مضجعي.. وفي قلق يسرق لذة نومي.. هاتفتُ بعض العلماء.. ليست المشكلة بذاتي.. بل بفؤادي.. أبنائي.. وعندما علمت خطورة الأمر.. ووجوب طاعة الله ورسوله.. اخترت الدار الآخرة.. وجنة عرضها السماوات والأرض على دنيا زائفة.. وحياة فانية.. وطلبت الطلاق.. كلمة مريرة على كل امرأة.. تُصيب مقتلاً.. وترمي بسهم.. ولكن انشراح لها قلبي.. وبرأ بها جُرحي.. وهدأت معها نفسي.. طاعة لله وقُربةً.. أمسح بها ذنوب سنوات مضت.. وأغسل بها أرداناً سلفت ابتُليتُ في نفسي.. وفي أبنائي.. أحاول أن أنساهم لبعض الوقت ولكن.. تذكرني دمعتي بهم قال لي أحد أقربائي.. إذا لم يأت بهم قريباً.. فالولاية شرعاً لك.. لنه لا ولاية لكافر على مسلم.. وهو كافر.. وأبناؤكِ مسلمون.. تسليت بقصة يوسف وقلت.. ودمعة لا تفارق عيني.. ومن لي بصبر أبيه.. في صباح بدد الحزن ضوءه.. طال ليله.. ونزف جُرحه لابدّ أن أزور ابنتي في مدرستها لم أعد أحتمل فراقها.. جذوة في قلبي تُحرقه.. لابدّ أن أراها.. خشيت أن يذهب عقلي من شدة لهفي عليها.. عاهدت نفسي أن لا أظهر عواطفي.. ولا أُبيّينُ مشاعري.. بل سأكون صامدة.. ولكن أين الصمود.. وأنا أ؛مل الحلوى في حقيبتي!! جاوزت باب المدرسة متجهة إلى الداخل.. لم يهدأ قلبي من الخفقان.. ولم تستقر عيني في مكان.. يمنةً ويسرةً أبحث عن ابنتي.. وعندما هويت على كرسي بجوار المديرة.. استعدت قوتي.. مسحـت عرقـاً يسيل على وجنتي.. ارتعاشٌ بأطراف أصابعي لا يُقاوم.. أخفيته خلف حقيبتي.. أنفاسي تعلو وتنخفض.. لساني التصق بفمي.. وشعرت بعطش شديد.. في جو أترقب فيه رؤية من أحب.. تحدثت المديرة.. بسعة صدر.. وراحة بال.. أثنت على ابنتي.. وحفظها للقرآن.. طال الحديث.. وأنا مستمعة!! وقفتُ في وجه المديرة.. وهي تتحدث.. أريد أن أرى ابنتي.. فأنا مكلومة الفؤاد.. مجروحة القلب.. فُتح الباب.. وأقبلت.. كإطلالة فمر يتعثر في سُحب السماء.. غُشي علي عيني.. وأرسلت دمعي.. ظهر ضعفي أما المديرة.. حتى ارتفع صوتي.. ولكني سمعت صوتاً حبيباً.. كل ليلةٍ يوآنسني.. وفي كل شدة يثبتني.. اصبري.. لا تجزعي.. هذا ابتلاء من الله ليرى صدق توبتك لي يضيعكِ الله أبداً.. من ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً منه أخيتي.. الفتنة.. هي الفتنة في الدين كففت دمعي.. واريت جُرحي.. بثثت حزني إلى الله.. خرجت.. وأنا ألوم نفسي.. لماذا أتيت..؟! والأيام تمر بطيئة.. والساعات بالحظن مليئة أتحسس أخبارهم.. أسأل عن أحوالهم؟! ستة أشهر مضت.. قاسيت فيها ألم الفراق وذقت حلاوة الصبر الباب يُطرق.. ومن يطرق الباب في عصر هذا اليوم.. إنهم فلذات كبدي لقد أتى الله بهم.. تزوج وأراد الخلاص مرت ليلتان.ز عيني لم تشبع من رؤيتهم.. أذني لم تسمع أعذب من أصواتهم.. تتابعت قبلاتي لهم تتابع حبات المطر تلامس أرض الروض علمت أن الله استجاب دعوتي.. وردهم إليّ ولكن بقي أمر أكبر.. إنه تربيتهم عُدت أتذكر يوم صحوتي.. وأبحث عن ذاك الشريط.. حمدت الله على التوبة.. تجاوزت النفق المظلم.. صبرت على الابتلاء وأسأل الله.. الثبات الثبات.. السيف (3) قال سلمة بن دينار لجلسائه: لوددتُ أن أحدكم يُبقي على دينه كما يبقي على نعله. رمقتُ سقف الغرفة.. وأنا أنظر بعينين زائغتين -------------------- انقطعتُ عن الدنيا.. وغبت عن الحياة.. منذ أن تركت المدرسة.. لا أرى زميلة من زميلاتي.. سمى مُدرستي (...) كل شهر أو شهرين تزورني.. بعد غد موعد زيارتها.. أعد الدقائق واللحظات.. وأستعجل الليل والنهار أحتاج إلى من يزورني.. ويخفف همي ووحدتي.. ولكن.. يتربع سؤال على لساني.. أين المحبة.. وأين الوفاء؟ من كن يسمعن ضحكاتي في المدرسة اختفين.. من سعدن بقربي في الصف الدراسي سنوات ذهبن.. وحيدةٌ أعيش.. الأنين رفيقي.. والألم سميري.. والهم والغم أنيسي.. تتجاذبني الأهواء.. شاردة ساهية.. حتى والدتي تعبت من الجلوس معي.. منذ زمن لم أر حفلاً.. ولا دُعيت لمناسبة.. ولو دعيت.. كيف أذهب؟! وأنا لا أتحرك بسهولة.. خاصة في مكان يحتاج إلى حركة ونشاط.. يحتاج إلى فرح وسرور.. وأنا لست كذلك كلما فقدت الأمل.. وطوقني اليأس.. تأتي.. مما يُرش الماء على هشيم النار.. ويأتي عذب حديثها.. اصبري واحتسبي.. أمر المؤمن كله له خير.. عليك بذكر الله.. وقراءة القرآن.. لا تضيعي دقيقة واحدة من وقتك في الهواجس والخواطر زيارة مُدرستي قصيرة.. ولكن حديثها.ز طويلُ.. طويل يصل إلى أعماق القلب.. ويحيي الأمل في النفس.. عطر الكلمات يبقى وهي تودعني.. وتبقى هدية كلما أتت.. مجموعة من الكتب والأشرطة.. مرت سنة كاملة وهي لم تتركني.. تتعاهدني بالزيارة بين حين وآخر.. أخبرتني أنها ستتزوج.. فرحت بذلك.. ولكن بدأت تنقطع زيارتها.. تُباعدها الأيام.. رغم أني تحدثت عن حاجتي لرؤيتها ورأت دمعتي وأنا ألح عليها بزيارتي.. مع انقطاع أسعد اللحظات معها.. عشت في صراع رهيب.. الكلمات التي تأتي كالبلسم اختفت.. حديث القلب انقطع.. والابتسامة المشرقة غابت فترةٌ من الزمن مضت.. ثم اتصلت بي هاتفياً.. شهقتُ بفرح.. هل مازلت تتذكرينني؟! قالت: أنت أمام ناظري.ز أُفكر فيك في كل وقت وأدعو لك في صلاتي.ز ولكن انتقل عمل زوجي.. ولا أخفيك.. لقد حاولت أن تزوركِ أختي.. وربما نسيت أو انشغلت.. عاد الصمت.. انقطعت بنا الأيام من جديد.. وتباعدت الزيارات.. في ليل طويل.. تطاول من الألم.. وأسود من ظلمة الدنيا في عيني تناولت سماعة الهاتف.. سأتصل بابنة عمي.. كيف حالك.. لم تزوريني منذ زمن.. أين أنت..؟ أنا مشغولة بدراستي.. ولكن أخبيء لك مفاجأة.. وأي مفاجأة!! قلت ما هي..؟ في زمن المرض والكآبة.. هل هناك مفاجآت!! وأصررت أن تُخبرني.. أحسست أن سكون حياتي سيتحرك وركود أيامي سيجري.. هناك مفاجآت في حياتي. ولكنها أعادتني كسيرة الفؤاد.. غداً أخبرك.. لن أخبرك اليوم.. انتهت المكالمة.. نامت قريرة العين.. أما أنا..!! ربما غفوت مرة أو مرتين.. وهندما غالبتُ نفسي.. لابدّ أن أنام حتى أكون مستعدة للمفاجأة.ز صرخ هاتف المرض بداخلي أنت نائمة منذ سنتين أو أكثر!! في صباح الغد.. أتابع أشعة الشمس ترسل خيوطها في غرفتي سألت نفسي.. ما هي المفاجأة؟ زيارة.. هدين.. كل شيء خطر على بالي توقعته مرت ساعات طويلة تعودت على مرورها.. ولكن ساعات اليوم توقفت.. فالساعة لا تدق.. والشمس لا تجري.. بعد صلاة العصر انتظرت وصولها ساعة كاملة.. ولم تأت.. اتصلتُ بالهاتف.. قالوا.. نائمة.. اتصلت بعد ساعة.. فإذا بها لا تزال نائمة.. بعد صلاة المغرب.. وقد نفد صبري.. ولم يعد للمفاجأة أهمية في حياتي.. قلت لها حين أقبلت.. لم يبق لديّ لهفةٌ وشوق لأسمع المفاجأة.. لقد تبلدت أحاسيسي.. قالت: هوني عليك..الأمر يعني لك كل شيء.. مفاجأة.. لن تتكرر.. فرصة عُمر.. إنها فرصة تُنهي المرض.. وتنهضين من فراشك فتحت فمي مدهوشة.. وقلبي يوشك أن يقفز من صدري.. ورعشةٌ بين أضلعي!! قالت: اسمعي.. حدثتني زميلتي عن شخص صالح يعرف ماذا بكِ من الأمراض.. وبعد أن يراك يعطيكِ أدوية وأعشاباً تشفيكِ بإذن الله مما أنت فيه.. كثيرات ذهبت إليه.. فلانة ذهبت له.. وقد طرقت أبواب المستشفيات.. ولم تُنجب.. أُبشركِ.. حامل وهي الآن في الشهر الثالث.. وفلانة.. تعرفين مشاكلها مع زوجها.. كان يكرهها ولا يطيقها.. بل هددها بالطلاق.. ذهبت إليه.. أتعرفين!؟.. الآن لا يستطيع أن يفارقها.. قاطعتها..إنه. قالت وصوتها يهز المكان.. أنتِ مسكينة.. ظَلِّي مريضة طول عمرك أتقبلين أن تعيشي هكذا..؟ ألا تريدين العافية..؟ ألا تبحثين عن الزوج وتكوين أسرة..؟ ألا ترغبين في إنجاب طفل يملأ عليك حياتك؟ أحلامٌ تلاحقت أمامي.. وسمعتُ صراخ طفلي.. وبسمة الحياة طولي.. لم أفكر في مقاطعتها استمرت في حديث الحُلم.. دغدغ مشاعري.. وأعمى بصري.. لو كتب الله لكِ العافية.. لعدتِ إلى حياتك.. ولتزوجتِ وأنجبتِ وأنجبت... بقية إيمان في قلبي صرخت تقول بصوت ضعيف إنه ساحر.. كاهن.. قالت.. هذا رجل صالح.. كثيرون ذهبوا له.. وعافاهم الله.. الله الشافي.. وهو سببٌ من الأسباب يداوي بالأعشاب والقراءة.. لحظات الضعف توالت.. خبت جذوة الإيمان في قلبي وسَمِعتْ صوتي وقد هزه الضعف.. وأنهكه المرض متى نذهب..؟ انتفضت واقفةً بفرح.. تلوّح بعباءتها.. الآن.. سأتصل بالهاتف قبل أن نذهب.. ثوان.. دقائق.. وإذا بي على مقعد بجوارها.. والسيارة تنهب الأرض.. قالت.. لا تتكلمي.. سأتولى كل شيء..ثم أتبعتها بضحكةٍ قوية.. إذا تزوجت غداً تنسين معروفي معك..!! في ليل مظلمة.. غاب قمره.. وبقلب علاه رانٌ لم يسطع إيمانه.. طُرقٌ مظلمة.. وشوارع ضيقة.. توقفت السيارة.. التفتت يمنة ويسرةً.. ثم سألت السائق ألا يوجد أحد عند الباب؟ قال.. لا.. قالت.. اطرق الباب بهدوء. انتابني الخوف من تصرفاتها.. وكثرة التفاتها.. كأننا لصوص!! صرير الباب يُسمع في هدوء الليل في رعبٍ شديد.. دلفنا مع الباب.. المكان موحش.. لا أثر للإضاءة في مدخله.. مظاهر الفقر والفوضى.. تطغى عليه.. أقبل علينا.. رجلٌ في منصف الأربعين من عمره جسمٌ هزيل.. وعينان غائرتان.. وأطراف مرتعشة.. تمنيت أن الأرض انشقت بي ولم آت إلى هنا.. نظراته.. كالسهام.. تصوب نحوي.. وبدأت يده تُمسك بي.. لا أستطيع الحركة.. وخشيت أن أصرخ.. عقد الخوف لساني.. وجمدت أطرافي رحم الله المرض.. لم أعاني في سنوات مضت ما أعانيه الآن.. قالت له.. وأنا ممسكة بيدها.. هذه ابنة عمي.. ونريدك أن تهتم بها.. ونعطيك ما تريد قال بصوت أجش.. مزق سكون الظلام.. أنا.. لا تهمني المادة.. المهم عافيتها.. والشفاء من الله.. سعل بقوة شديدة ثم قرأ (وإذا مرضتُّ فهو يشفين) وأردف بضحكة أخرجت أنياباً في فمه.. بعد شهر لا تستطيع اللحاق بها من سرعة الجري!! ما اسمها ما شاء الله..؟ قالت.. فلانة.. واسم والدتها..؟ قالت..فلانة.. وسيل من الأسئلة اندفع.. ثم سكت برهة ووجه الحديث نحوي سأخبرك بأمور إذا كانت صحيحة قولي نعم.. وإذا كانت غير ذلك قولي.. لا كُنتِ بنتاً نشيطةً وفتاةُ محبوبة؟ قلت.. ورأسي يخط على رقبتي..نعم قال.ز الكثيرات يغرن منكِ ويحسدنكِ؟ قلت.. نعم قال.. ذهبت إلى أطباء كثيرين ولكن دون فائدة..؟ قلت.. نعم.. قال.. كنتِ متفوقة في دراستك..؟ قلت.. نعم.. أخذ يسألني أسئلة.. إجابتها.. نعم.. ثم قال.. انتظري.. تحرك كأنه جبل.. انزاح عن قلبي التفتت إليّ ابنة عمي.. بصوت هامس.. وحماس واضح.. أرأيتِ..كل أسئلته صحيحة.. هذا خبير يعرف كل شيء..!! بعد دقائق من حديثٍ متقطع.. أقبل علينا.. وحدثنا وكأنه يأمرنا بالخروج.. بعد يومين تأتين وحدك.. وأشار بيد مرتعشة إلى ابنة عمي.. خرجنا.. قلت.. الحمد لله الذي أخرجني من الظلمات إلى النور بجواري ابنة عمي.. فرِحةً مسرورة.. ولكني.. ازددت ألماً على ألمي.. وحزناً على حزني.. شعور بداخلي يرتفع.. ويصرخ في أذني.. تقدمت خطوة إلى النار.. لم انم تلك الليلة.. خواطر تعاقبت.. وألمٌ يغرس سيفه في قلبي.. أين ذهبت في تلك الأزقة؟ والطرق المظلمة؟ كلما تذكرت مظهره.. انتابني الخوف.. ولكما تحسست موضوع يده.. اقشعر جلدي.. عاتبت نفسي.. حتى بكيت بحرقة.. ولكن لحظاتٌ تمر.. ولا يزال الأمل بالعافية يدغدغ مشاعر.. وخطرات في عقل.. ألم تسمعيه وهو يقرأ القرآن.. وهو يردد العافية من الله؟ رجل صالح.. رجل ساحر.. لا بل صالح.ز بل ساحر!! اختلطت الأمور.. وأظلمت السماء.. ورداء الخوف يُلفني بعد يومين.. أقبلت ابنة عمي تنادي بصوت مرتفع.. احفظي.. لا بل أين القلم؟! اكتبي.. هذه تُشرب في الصباح.. وهذه المساء تؤكل.. وهذا تتبخرين به في الليل.. وهذا.. قائمة طويلة.. تعجبت.. كل هذا..؟ قالت.. يا وفاء العافية تُشترى.. وأردفت بحرص.. لا تهملي في العلاج.. فهو علاج دقيق.. لاحظت عدم مبالاتي.. بصوت مرتفع كعادتها.. لقد دفعتُ مبلغ (……) صُعِقتُ من المبلغ وكثرته.. وتساءلت.. صحيح..؟ قالت.. نعم.. وعافيتكِ لو أبيع ما أملك لأشتريتها لكِ.. ابدئي الآن!! شربتُ.. وأكلتُ.. وتبخرت.. ولم أر حلماً جميلاً كما قال لي.. بل رأيت أحلاماً مزعجة حياة.. عقارب.. أفاعي.. كوابيس مزعجة.. ونومٌ متقطع!! وفي اليوم الثاني.. حسب ما قال لي.. (ستشعرين بكذا وكذا في الليلة الثانية) لم أشعر بشيء مطلقاً.. ولم تتحرك شعرة في رأسي.. بعد شهر من لأدوية والعلاج.. بدأ الحماس يفتر والفرح يخبو.. في مساء يوم جميل .. دَلفت مع الباب.. إنها مُدرستي اختلفت كثيراً.. بهاء السعادة يُطل من عينيها.. وفرح عريض على شفتيها.. زادت أناقتها مع بساطة واضحة.. بشوشة كما هي لم تتغير.. قبلتني بين عيني.. سألتني عن كل فرد في المنزل وعن والدتي.. ووالدي ما أحسن خلقها.. وما أصدق ابتسامتها.. في حديث لتهوّن عليّ ما أنا فيه.. روت لي قصة شاب مقعد.. مشلول طريح الفراش.. ثم تابعت.. احمدي الله.. أنت تتكلمين وتشعرين.. غيرك لا يشعر بما حوله.. هوّنت الأمر عليّ.. واستمر الحديث.. وصدري يغلي بما فيه.. أريد أن أتحدث عن كل شيء.. كلما لمستُ صدق محبتها ولطفها شعرت أنني في حاجة إلى مصارحتها.. سأخبرها بالأمر.. تحرك لساني ببطء.. استعدت الذاكرة.. وأحداثٌ لا تُنسى.. عاد الرعب لقلبي.. والرعشة لأطرافي.. بدأت في الحديث.. إنصات عجيب.. وحضورٌ متوقد.. صوتي يروح ويغدو في المكان.. وعندما توقفت عند آخر كلمة.. (لم أجد شفاءً).. ألقيت إليها بمهمة الكلام.. قالت لي مخاطبة.. إنا لله وإنا إليه راجعون.. كيف وافقت على الذهاب؟ بل كيف تطرقين هذا الباب؟ تبحثين عن العافية بمعصية الله؟! أما سمعت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) سكتت برهة.. قلت بهدوء.. اعلم أن ما تقولين صحيح ولكن ضَعفَ إيماني.. في لحظات.. سقط كل شيء.. وذَهبْت.. وبكيتُ بحرقة بعد أن رجعت.. لإزالة ما بقي من هواجس وخواطر.. عدتُ لأقول.. وأدافع عن نفسي.. فأنا صريعة الأمواج.. لا مقر.. ولا مفر.. لقد قرأ آيات من القرآن وسمعته يقول أن الله هو الشافي المعافي ليس أنا.. لا تهمه المادة.. و.... قالت لي... هل يدل مظهره على أنه من أهل الصلاح والتقوى؟ قالت.. لا قالت.. الأوراق التي قال تبخري بها.. هل قرأتيها..؟ قلت.. لا تقرأ.. طلاسم.. رموز.. أرقام.. سئَلَتْ وأسىً ألمحه على وجهها ألم يقل ما اسم أمكِ..؟ ما فائدة الاسم في العلاج؟.. خيم علينا سكون يسبق العاصفة قلت لها مدافعةً وأنا أعلم خطئ.. أخبرني بأشياء صحيحة في واقع حياتي.. قالت.. وقد هزت يدها.. كل ما قاله ينطبق على أغلب الناس.. أعيدي الأسئلة عليّ أنا.. لترين.. لا تنخدعي.. بهذا الأسلوب الماكر.. يُثبت لك لأسئلة عامّة أنه يعرف كل شيء.. تحول الحديث إلى نقاش طويل.. سألتني.. ألم يقل لك اذبحي ديكاً أو كبشاً.؟ قلت لها.. لم يُلزمني بذلك. قال: إن فعلتِ فهذا أفضل.. يطرد الشياطين.. ويحميكِ من الشرور.. قالت.. والله ضاع التوحيد.. كنت تقفين على بعد خطوات من النار.. اسمعي.. وأنصتي.. قصة تؤدي نهايتها إلى طريقين.. إما إلى جنة.. وإما إلى نار قال صلى الله عليه وسلم: (دخل الجنة رجلٌ في ذباب، ودخل النار رجلٌ في ذباب) قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: مرّ رجلان على قوم لهم صنم لا يجاوزه أحد حتى يُقرّب له شيئاً قالوا لأحدهما: قرّب.. قال: ليس عندي شيءٌ أُقرّب قالوا: قرّب، ولو ذباباً.. فقرب ذبابا فخلوا سبيله.. فدخل النار.. وقالوا للآخرة: قرّب قال ما كنت لأقرّب لأحدٍ شيئا دون الله عز وجلّ. فضربوا عنقه.. فدخل الجنة). تأملي الحديث.. وتأملي عِظَم الأمر.. لا يغلبنك الشيطان.. ولا يُضعفك المرض عليك بالرقية القرآن.. سواءً قرأت لنفسك وهذا أكثر إخلاصاً.. أو قرأ ونفث عليك شخص معروف بالصلاح والتقى.. تسمعين قراءته للقرآن.. لا طلاسم.. لا همهمة.. لا رموز تعتقدين أن الرقية لا تؤثر بذاتها.. بل بتقدير الله عز وجل قالت بصوت فيه مرارة الألم.. لو مِتُّ على التوحيد وأنت مريضة.. خير لك من أن تحيي مشركة.ز اسألي الله العافية.. وعليك بالرقية الشرعية.. تأملي حاله.ز لو كان يقدر على خير لقدمه لنفسه.. ألم ترى بؤسه وفقره؟ قلت.. بلى.. قالت: من أحب إليه.. أنت أم نفسه؟.. لماذا لم ينفع نفسه؟ هذه أبواب تؤدي إلى النار.. في سبيل دنيا عمرها قصير.. تهوين في نار جنهم.. (إنه من يشركْ بالله فقد حرّم الله عليه الجنةَ ومأواه النار وما للظالمين من أنصار). صرختُ منتفضة.. والإيمان يعمر قلبي.. ودمعة تسقط من عيني.. والحل..؟ قال: عليكِ بالتوبة فبابها مفتوح.. واحرصي على ابنة عمك.. لا تذهب مرة أخرى.. ثم حتى تبرأ ذمتكِ.. يجب أن تخبري عنه.. لكي يُمنع شره.. ويأخذ جزاءه.. ولخطورة عمله.. فالساحر.. لا يُستتاب.. مثل تارك الصلاة مثلا.. بل يُمر السيف على رقبته.. دمعة الفراق (4) تَبَلَّغ مــن الدنيــا بأيسـر زاد فإنـك عنهـــا راحـل لمعــاد وغُضَّ عن الدنيـا وزخرف أهلها جفونـك واكحلهـا بطيب سُهــاد وجاهـد عن اللذات نفسك جاهـداً فإن جهـاد النفس خيـرُ جهـــاد مـا هي إلا دار لهــو وفتنــة وإن قُصـارى أهلهـــا لنفــاد في مساء ذلك اليوم.. سمعهم يتحدثون.. العيد ربما يكون غداً.. ولمشاركة في الحديث وإنصاته لهم.. ألقوا إليه حملاً ثقيلاً.. عندما طلبوا منه وهو طفل صغير.ز أن يسمع أصوات المدافع مشيرة إلى أن الشهر لم يكتمل وأن عداً هو يوم العيد.. تولى المهمة.. بهمة عالية.. ورجولة مبكرة.. ترك ما حوله من الألعاب.. ونسي أقرانه من الأطفال.. أصغى بسمعه.. وأرهف جوارحه.. وكأن العيد أصبح مسئوليته!! صعد إلى أعلى المنزل.. وخرج إلى الساحة.. وأخيراً.. اختار أهدأ النوافذ وأبعدها عن الضجيج.. مرت ساعات طويلة من الانتظار.. ذرع خلالها المنزل ذهاباً وعودةً.. بعدها اهتزت أذنه فرحاً.. عندما سمع أصوات المدافع.. وبدت واضحة أكثر عندما توقف إمام المسجد عن أداء صلاة التراويح.. بدا له أنه انتزع العيد انتزاعاً من تلك الليلة المظلمة.. وأتى بهلال شهر شوال.. هرول مسرعاً إلى جدته ليزف لها البشرى التي ينتظرها الجميع.. والتي أداها على خير وجه.. وكان صوته يسبقه مجلجلاً في أرجاء المنزل يعلن قدوم العيد.. لشدة هوله.. توقف..!! لمح جدته في مصلاها وعيناها تدمعان.. اقترب منها ورفع صوته معلناً قدومه.. وقدوم العيد.. وعيناه تتابعان سقوط تلك الدموع على مصلاها.. انتهت لاقترابه ورفعت رأسها.. أخفتِ الدموع بيدها.. قبلت جبينه.. وأعلنت فرحها لفرحه بالعيد.. سنين طويلة.. مرت من عمره.. علم فيها أن تلك الدمعة تعبير صادق عن فقدان شهر عزيز.. وأيام كريمة.. شهر رمضان.. هذا حُزن من يفرح بقدوم مواسم الخيرات ثم انقضائها.. تَبقي في نفسه لوعةٌ لفراق هذا الشهر.. شهر الخيرات والعطاء.. تجعله يتمنى أن السنة كلها رمضان.. بعد أن كبر الطفل وأصبح رجلاً.. رأى الموازين انقلبت.. والأمور تغيرت.. والأحوال تبدلت.. رأى بأُم عينه التي رأت تلك الدمعة.. من يفرح بإعلان العيد هرباً من رمضان.. رأى من يترك كل عبادة وطاعة يؤديها مع إعلان العيد.. وكأن فجر العيد إعلان بترك الطاعات والواجبات.. وإيذان بموسم المعاصي والمحرمات.. تأكد من ذلك عندما سمع الإمام يرفع صوته من على المنبر في صلاة الجمعة التي تلي شهر رمضان.. وقد خلا المسجد من المصلين إلا قليلاً.. وهو يتساءل.. أين من كان يصلي معنا في رمضان؟ لقد امتلأ بهم المسجد على سعته.. لقد حافظوا على الصلاة في شهر رمضان.. ثم أردف بحرقة وألم.. أين هم الآن؟ ثم كرر السؤال.. هل قدموا من كوكب آخر؟ ولكن صوت الإمام يضيع في تلك الصفوف الخالية.. ولا مجيب!! تساءل.. والدمعة يراها في عين جدته.. ومرارة الفراق على قسمات وجهها.. أهكذا يودع رمضان بهذا الجفوة وهذا الإصرار؟.. ألا يُعرف المسجد.. ولا يقرأ القرآن إلا في رمضان؟ شهر رمضان مدرسة لتربية النفوس لتستمر طوال العام بنفس الهمة والنشاط دون كلل ولا ملل ولا فتور.. ولكن.. ما نراه اليوم منذ أن يودِّع رمضان تُودّع المساجد إلى العام القادم؟! يطرى المصحف إلى رمضان القادم؟!.. تترك الطاعات والقرابات إلى العام القادم؟!.. يُغفل عن النوافل.. وتترك الواجبات.. والله سبحانه وتعالى قد حدد وقت نهاية الأعمال بقوله تعالى: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين). واليقين هو الموت.. لا مدفع العيد..!! الهاوية (5) قال بلال بن سعد: ربَّ مسرور مغبون يأكل ويشرب ويضحك، وقد حُقَّ له في كتاب الله عز وجلً أنه من وقود النار. -------------------- وأنا أحمل إبريق الشاي.. بدا لي أن كل شيء يتحرك من مكانه الأكواب تقدمت إلى الأمام.. وإبريق الشاي رجع إلى الخلف ولكني أمسكت بقوة على صينية الشاي حتى وضعتها.. ناداني أخي.. تعالي هنا تحركت ببطء يلفه الخجل.. وبخجل يحركه الارتباك ولما جلست.. فإذا عينيَّ بعينه..!! بدأت أضغط على يدي وأحرك أصابعي بقوة.. لم أشعر بالألم ولا بشيء حولي غشاوةٌ على عيني.. ودقات قلبي تُسمع من بعيد.. وقطرات الماء من جبيني.. سالت أودية وأنهاراً كان حديث أخي والخاطب.. عن الجو هذا الأيام والمطر.. وكثرة الخير سألني.. كيف حالك؟ سمعت السؤال.. ولكني فقدت الجواب لساني استعصى عليّ.. وتحولت حركته إلى جمود.. انتزعته انتزاعاً من فمي وقلت بصوت لا يُسمع.. الحمد لله فكرتُ أن أهرب.. ولكن قدميّ تقول.. لا.. لن تتحركي!! لاحظ سكوتي وارتباكي.. ووجه الحديث إلى أخي.. وجدتها فرصةُ لا تُعوض.. اهربي بعد لحظات كنت أتنفس الصعداء.. شربت كوباً من الماء.. وأتبعته بثان.. عندما هدأت أعصابي قليلاً.. سألتني أختي.. كل هذا حياء؟! قلت لها.. ما هو شعورك.. ترين رجلاً لأول مرة.. ليس مَحرماً لك؟ بعد أسبوع.. إذا بالرجل يطرق الباب جلس مع أبي.. وتحدث إليه.. ثم قدم له المهر.. كان أبي حازماً ملأته السنين حكمة وتجارباً قال له: ما هذا يا بنيّ؟ قال: هذا مهرُ لعفاف.. وفاجأه أبي.. كل هذا مهر.. ماذا تفعل به ابنتي؟ ارتبك الشباب.. وأجاب تشتري به ملابس.. وحُلي.. أجاب أبي بلطف.. هذا المهر.. وأخذ مبلغاً يسيراً وناوله ما تبقى.. وهو يحدثه.. الذهب.. ابنتي لا تعرف شراء الذهب.. اشتره أنت.. أما الملابس.. فسنجهزها بما تيسر.. ثم عليك كسوتها. يا بُنيّ: أكثر النساء بركة أيسرهن مؤنة.. ونحن اشتريناك من بين تقدم.. وفضلناك على كل من أتي.. لا تُخيب أملنا قيل.. لم نزوجها إياك إلا لتُكرمها.. وتُعينه على الطاعة والخير تمت الأمور.. فرح الجميع.. بما فيهم أنا.. رجلٌ كما ذكر أخي.. لا تفارقه الابتسامة.. على محياه الخير لا يترك صلاة الجماعة.. بارٌّ بوالديه.. جمع بين الخُلق والدين.. صفات كافية لأعلن فرحي به حمدت الله.. حدثت نفسي.. بقي الكثير.. بدأت رحلة العذاب.. وأي عذاب إنها رحلة الأسواق.. في ما مضى لا نذهب للسوق إلا نادراً الآن تغير الأمر.. لابدّ أن نذهب كل أسبوع.. شحذ للهمم.. وترتيب للوقت.. وحساب للمصاريف.. (نُجهز عروساً) فكرت.. لماذا لا نتجهز للقبر هكذا؟! استعداد.. وهمة.. واستقطاع من وقت أبي وأخي.. وسؤال عن ذا وذاك.. أين نجده وكم ثمنه؟! مع أبواب الأسواق.. ندلف إلى فتن.. ومزاحمةٌ للرجال.. هذا أمرٌ لا يُطاق.. ألقيت بحمل ثقيل على أخي.. شراء بعض ما أريد.. تحدثت مع أختي.. يجب أن ننظم أنفسنا ونرتب أوقاتنا.. كتبت ورقة فيها ما أحتاجه.. ثم وزفتها على حسب الأمكنة والأيام.. وبهذا حددت أين أذهب وماذا أشتري.. لن أبدأ حياتي الزوجية بذنوب ومعاصٍ.. أبحث عن التوفيق.. وهو لا شك في طاعة الله وامتثال أوامره.. ذهبت مرة للسوق.. ولعلي اشتريت الكثير مما أريد فأنا أعرف أين أذهب وماذا أشتري.. فالقائمة بيد.. مرة أخرى. ذهبت.. وعندما دخلت إلى محل أخذت منه بعض ما أريد.. ولكن كان هناك زحام شديد.. نساء في كل زاوية.. وأمام كل بائع.. الجميع يشتركن في أنهن بنات الإسلام.. ولكن البون شاسع.. والفرق واضح إحداهن مُظهرة لشعرها.. وأخرى كاشفةٌ عن وجهها.. وثالثة تسمع صوتها يجلجل في المكان.. فكرت أن أتحدث مع كاشفة الوجه.. من أبانت عن زينتها.. ألا تخافين من العقاب؟ وجهك الجميل.. كيف يصبر على النار؟ تذكري.. إذا وسدت في القبر..!! تذكري يوم العرض على الله!! ماذا تقولين يوم الحساب؟ واستجمعتُ كلمات.. ولكن المكان مليء ومكتظ بالمتسوقين.. وفضلت أن أُبعد صوتي عن مسامع الرجال.. أبحث عن هدوء.. عن مكان أنصحها فيه.. وأنا أفكر في اختيار الوقت المناسب.. إذا بشاب عليه ملامح الخير.. ومعه امرأة.. ربما زوجته أو أخته.. هاتَفها.. يا أختي.. عليك بالستر.. لو غطيت وجهك لكان خيراً لك رأيت الحياء سقط من النساء.. عندما رفعت صوته.. ما شأنك أنت؟ سكتَ قليلاً.. والأنظار متجهة إليه ثم قال.. يا أُختي.. كلامك خطير.. ويخشى عليك الكفر.. لا تأخذك العزة بالإثم.. توبي إلى الله.. ثم خفض صوته.. وهو يدعو.. هداك الله.. وخرج.. توقعت أن الأمر انتهى بخروجه.. ولكن لاحقته النبال والسهام.. فضولي.. ما شأنه.. الكل يريد أن يأمر وينهي.. أما أنا فقد شغل ذهني قوله.. يُخشى عليك الكفر.. كيف يقول هذا؟ سألت أخي.. ووعدني خيراً.. سأبحث لك الأمر.. ولكن مضى أسبوع بدون أن أسمع الجواب؟ قلت في نفسي.. هل الرجل قال هذا الكلام جُزافاً.. وهل يقبلُ مسلمٌ ناصح أن يقول على الله ما لا يعلم؟ وعزمت.. إن شاء الله بهمتي سأبحث عن ذلك.. سألت.. وسألت.. ولكن بدون أن أجد جواباً شافياً.. في زحمة انشغلي.. نسيت الأمر بل وتوقفت عن السؤال.. وبعد شهور.. من زواجي عادت الكلمات إلى أذني.. سألت زوجي قال: كلامه صحيح وقد سمعت به ولكن أين؟ لا أذكر.. ومضت الأيام.. حتى قرأت قدراً ما بحثت عنه مرات عديدة.. وصدمت من هول المفاجأة.. في حاشية ابن عابدين أن من قال (فضولي) لمن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر فهو مرتد.. وقرأت أيضاً.. فالقائل لمن يأمر بالمعروف أنت فضولي يخشى عليه الكفر.. أعدت القراءة مرة أخرى.. وسألت نفسي.ز هل بلغ الجهل بالناس إلى هذا الحد.. محاربة الله ورسوله.. والارتداد عن الإسلام.. بُـــدور (6) وحدثتـك الليـالي أن شيمتهــا تفريـق ما جَمعتـه فاسمـع الخبرا وكن على حذرٍ منهـا فقد نصحتْ وانظر إليهـا ترى الآيات والعبـرا فهل رأيت جديداً لم يعـد خَلِقــاً وهـل سمعت بصفوٍ لم يعـد كدراً أقبلت ابنتي بدور.ز يسبها صوت كتغريد الطيور.. وما أن التفتُّ إليها فإذا بها تجري نحوي بسرعة رافعة يديها.. ضممتها بقوة.. وتحسست أطراف أصابتها تخترق جسمي.. أغمضت عينيّ.. حمدت الله.. نعمٌ كثيرةٌ.. زوج وطفلة.. وسعادة ورافة الظلال.. تذكرت تلك الأيام الأولى.. وأنا لازلت في المرحلة الثانوية.. ولكن بحكم القرابة وافق الأهل.. سنوات مضت من تلك اللحظة التي علمت بأن عادل تقدم لخطبتي كانت قلوب الكثيرات تتمناه.. جمع بين حُسن الخلق والدين.. بعد انتظار طويل تمّ عقد الزواج بعد أن نلت شهادتي الجامعية.. بدأنا نفكر في المستقبل.. ونحن في بداية الطريق.. والآمال كبيرة.. والطموحات كثيرة.. تم التعاقد معه للعمل في المملكة.. سافر وحده.. وبقي في غربته.. وأنا وحيدةٌ في غربتي.. بعد عام ونصف من بعد المسافات ومن الشوق والحنين قدمت إليه وكلي خوفٌ من الغربة الجديدة.. وخوف من الوحدة.. كيف سأعيش بعيدة عن أهلي وأقاربي.. ولكن تذكرت أن هنا زوجاً ينتظرني.. ذا خلقٍ ودين ما حلمت به في منامي ويقظتي من صفات وجدتها فيه.. حُسن المعاشرة.. لينُ الجانب.. بشاشة الوجه.. صفاءُ النفس.. صدق الحديث.. منحني من الحنان أوفره ومن العطف أكثر جمعت بيننا الغربة.. ونمتْ في قلوبنا المودة أشياؤه البسيطة.. أحببتها.. أحياناً يطلب كأساً من الماء أو الشاي.. يُتبعه الثناء والشكر عجبتُ من أدبه وحسن تعامله.. قلت له: لا تشكرني على خدمتك.. هذا واجبي نحوك.. ولكنه كان يغمرني بطيب أخلاقه.. حمدت الله وشكرته.. أن زوقني بزوج مسحَ دموع الغربة وعوضني فقد من أحب.. كان لي نعم الزوج والأب والأهل.. وأنا في الشهور الأخيرة من حملي.. لم يرهقني بطلب.. ولم يأمرني بما لا أستطيع بل كان يقدم لي سؤالاً قبل طلبه هل أنت مرهقة..؟ هل أنت متعبة؟ كان يشاركني فَرحَه.. وحُلمه.. ويقول إن رزقنا الله طفلاً.. سنسميه بلالاً.. كان يحب بلالاً مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. تمر الأيام الأخيرة للحمل.. وأضع طفلة كالبدر.. أسميناها بدور.. سألته يوماً وهو يداعبها.. هل أنت حزين لأنها أتت بدور ولم يأت بلال..؟ قال لي.ز إن هذا رزق الله (يهب لمن يشاءُ إناثاً ويهب لمن يشاءٌ الذكور) ومن رزقنا بدوراً.. يرزقنا بلالاً.. إن شاء الله الحمد لله.. ظِلُّ السعادة يزيد.. وشجرة المحبة تكبر وتنمر.. ومن نِعم الله علينا.. قدومنا إلى هذه البلاد.. حيث دروس العلماء.. والمحاضرات والندوات.. وحتى مجتمع المدرسة مجتمع تناصح وخير.. أهدتني زميلة لي في المدرسة .. شريط.." أيتها المرأة الحجاب أو النار " لأحد العلماء... بمجرد سماعي لهذا الشريط . هداني الله لغطاء وجهي .. كان زوجي يفرح بسماع أذان الفجر .. يهب من فراشه مسرعاً .. يوقظني .. ويخرج للصلاة .. وكانت وصيته لي وأنا ذاهبة للمدرسة أنت مربية الأجيال.. عليك بإخلاص.. وحذري الغيبة والنميمة .. إن كان في حديثك خيرٌ فتحدثي لا خير في حديث تندمين عليه يوم القيامة.. في ذهابنا وعودتنا.. غالباً نسمع شريطاً لأحد العلماء.. مرت الأيام حلوة جميلة.. كهبات نسيم معطرة.. وفي يوم .. مثل بقية الأيام .. ذهبت للمدرسة .. وعندما خرجت بعد صلاة الظهر من المدرسة .. رأيته على غير عادته .. لاحظت تعبه وإرهاقه .. قلت ماذا بك ..؟؟ قال .. مرهق وأحس بدوار في رأسي وعندما وصلنا إلى المنزل.. جهزت له طعام الغداء.. لم يستطع أن يتحرك من سريره.. أطعمته بيدي كررت عليه السؤال.. ما بك؟! قال.. مرهق وأريد أن أرتاح.. تركته نائماً حتى موعد صلاة العصر.. أيقظته.. لم يستطع أن يستيقظ.. اتصلت بالجيران.. ذهبت معهم إلى المستشفى.. وهناك.. كانت بداية النهاية.. أتى الطبيب بخطوات سريعة .. وقال لي .. حالة زوجك حرجة وهناك اشتباه في وجود التهاب على قشرة المخ.. ثم فصل الأمر .. هناك نوعان .. نوع بسيط ونوع خطير تقبلت الخبر بثبات .. وما كنت أظن أني كذلك .. حتى الساعة الواحدة والنصف ليلاً وأنا أصلي وأدعو الله أن يشفيه.. ظل في غيبوبة ثلاثة أيام متواصلة من ظهر يوم الأربعاء... ومروراً بيومي الخميس والجمعة.. وفي صباح يوم السبت.. تحسنت حالته وأفاق من غيبوبته وبدأ يعرف الزائرين شكلاً.. وعندما اقتربت منه.. قلت له.. هل عرفتني يا عادل ؟ قال.. لا... قلت له أتعرف بدور ؟ قال هي ابنتي.. أردفت بسرعة ..أنا أم بدور.. تبسم ضاحكاً وقال.. أنت زوجتي !! بكيت بكاءً مراًّ .. قبل ثلاثة أيام .. كيف كان حاله .. ذاكرته .. عقله .. سؤاله عني ..واليوم تبدلت الأحوال.. لا يعرف حتى أحب الناس إليه.. لا يعرف زوجته وابنته..!!! طال بي التفكير.. ولم أنس ذكر الله .. وتنبهت على صوت الإمام يقرأ في الصلاة..وكأنه يخاطبني.. ( يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين ( .. وأنا أتابع الآيات تتابعت دموعي.. وعلمت أنني من أصحاب هذه الآية.. (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ( .. نحن هنا في غربة.. وبفقد الزوج.. في مصيبة.. من يذهب بي إليه في المستشفى.. من يأتي معي.. إنها غربة وأشد أنواعالغربة.. خاصة إذا كانت إمرأة ضعيفة مثلي.. وحيدة في بيتها.. لا أخ ولا أب.. ولا زوج.. في يوم الأحد كتمت حزني.. ذهبت مع أحد أصدقائه وزوجته.. اليوم سعادتي لا توصف.. وفرحي لا نهاية له.. عرفني زوجي.. وعرف كل من ذهب إليه شد انتباه من حوله.. أن كل زائر ملتحٍ يبتسم له ويعرفه.. ولكنه لا يستطيع تذكر الأسماء.. أما أنا زوجته وأم أبنائه.. عرفني منذ أن رآني.. وناداني باسمي.. وابتسم في وجهي.. كأني لم أذق طعم السعادة إلا اليوم.. وكأني لم أسمع اسمي على لسانه إلا هذه المرة.. طلب مني أن يتوضأ للصلاة ويصلي ما فاته من الصلوات في الأيام الماضية.. هاجسه الأذان.. وحديثه الصلاة.. في أحداث سريعة.. يوم الاثنين.. نقلوه إلى غرفة بمفرده لأن الفيروس انتشر في جسمه وزادت حرارته.. كان هذا اليوم.. يوماً مشهود في حياته.. كل يوم أزوره من الساعة الثالثة حتى الساعة الخامسة.. ومن الساعة السابعة وحتى التاسعة.. وأراد الله هذا اليوم أن أبقى معه من الثالثة وحتى التاسعة.. وأنا أضع له الكمادات على وجهه ويديه ورجليه.. ولكن حرارته في ازدياد.. بدأت أقرأ القرآن بصوت يسمعه.. وعندما توقفت برهة عن القراءة لكي أضع الكمادات على قدميه.. قال لي.. افتحي جهاز التسجيل.. فرحت وقلت له.. تريد أن تسمع القرآن يا عادل.. قال.. طبعاً.. أكملت له التلاوة إلى أن أتى موعد الزيارة الثانية وحضر بعض زملائه وأصدقائه.. ومنهم صديق له ملتزم يحبه ويوده.. تبسم زوجي عندما شاهده.. ومد يده نحوه ليسلم عليه.. ولكن كانت فرحتي أكبر فمددت يدي بسرعة.. وصافحت زوجي.. وكان آخر سلام ومصافحة له.. ذهبت إلى منزلي فارغة القلب.. مهمومة النفس أغالب الحزن.. وأسأل الله الثبات مع تباشير فجر يوم الثلاثاء.. والمؤذن يرفع صوته بالآذان.. الله أكبر.. الله أكبر.. فتح عادل عينيه وجلس نصف جلسة على سريره.. ونظر بعينيه إلى السماء.. ثم رجع إلى الخلف وأغمض عينيه.. وصعدت روحه إلى بارئها.. كل إنسان له نهاية.. وقد حانت نهايته.. في هذا اليوم.. أصبح من أهل الدنيا وأمسى من أهل الآخرة في الصباح.. بحثت عمن يذهب بي إلى المستشفى وتطوع احد الجيران مع زوجته شعرت أن زوجي ربما قد حدث له شيء من أثر الحرارة المستمرة.. ونحن بجوار المستشفى قال لي جارنا.. انتظري سأذهب وأسأل عن حالته ثم أعود.. رفعت طرفي إلى مكان غرفته.. أقلب الطرف.. ويعود كسيراً.. طالت غيبة جارنا.. أو حسبت أن الأمر كذلك.. لم أستطع الصبر.. وعندما هممت بدخول المستشفى.. فإذا به قادم مطأطئ الرأس.. قال بصوت خافت.. رحمه الله.. اصبري.. قلت له.. هل ذهبوا به من هنا..؟ قال.. لا.. قلت .. لابد أن أراه.. ,أصررت على ذلك ذهبنا نحن الثلاثة.. وأنا أردد ( إنا لله وإنا إليه راجعون ( أسابق اللحظات.. واستحث الخطى.. دلفت إلى غرفته.. فإذا به ممدداً على السرير.. ومغطى برداء.. كشفت الغطاء.. فإذا بوجهه تعلوه السكينة والبشر.. لم أشعر إلا وأنا أقبله على جبينه..إلى جنة الخلد.. إلى الحور العين.. أخرجوني ولساني يردد ( إنا لله وإنا إليه راجعون ( اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها... الصدمة قوية.. والفجيعة كبيرة.. ولكني أحتسب مصيبتي.. دفناه هنا حيث الأرض التي أحب.. فرح حولي من المعزيات.. فالجميع يعدد محاسنه.. ومحافظته على الصلاة.. حمدت الله على هذه الخاتمة الطيبة تفكرت في حال الدنيا.. إن أعطت أخذت.. وإن أفرحت أبكت.. وإن أسرت أحزنت.. ساعات قليلة.. بين فرحي وحزني.. بين ابتسامتي ودمعتي اليوم.. انقلبت إليَّ غربتي.. وعادت إليَّ وحدتي.. فقدت عادل.. ولكن بقي رب عادل.. لن يضيعني أنا.. وبدور.. وهو أرحم الراحمين.. العيد (7) بينما الفتى مرح الخطأ فرح بما *** يسعى له إذ قيل: قد مرض الفتى إذ قيل: بات ليلة ما نامها *** إذ قيل أصبح مثخناً ما يُرتجى إذ قيل: أصبح شاخصاً وموجهاً *** ومعللاً إذ قيل: أصبح قد مضى -------------------- أيام العشر الأواخر من رمضان بدأت تنقضي.. والعيد قاب قوسين أو أدنى. لا أعرف أين سنذهب وأنا انتظر صديق الطفولة.. ولكن كالعادة الجزء الأكبر من وقتنا ليلاً نقضيه في جولات بين الأسواق والتجمعات والشوارع.. وحين استقريت على مقعد السيارة بجوار عبد الرحمن سألني.. هل جهزت ثوباً جديداً ؟! .. لقد أقبل العيد!!.. قلت له.. لا..!! قال: ما رأيك نذهب للخياط الآن.. وأنا أهز رأسي متعجباً سألته.. بقي ثلاثة أيام أو أربعة على العيد.. أين نجد الخياط الذي يسابق العيد ويختصر الأيام ؟؟! لم يعجبه حديثي واستغرابي.. سابق الزمن بسيارته حتى توقفت أمام الخياط بصوت قوي يوحي بالعجلة والتسرع!!.. فاجأني صاحبي بالسلام الحار على الخياط فهو يعرفه منذ زمن وقال له نريد أن نفرح بالعيد.. ونلبس الجديد!! ضحك الرجل وأجاب وهو يربت على كتفه !! كم بقي على العيد.. لماذا لم تأت منكراً؟! أجاب عبد الرحمن وهو يهز يده بحركة لها معنى.. سنزيد لك في الأجرة.. المهم أن ينتهي بعد غد!! وأعاد الموعد مرة أخرى.. بعد غد..!! وأنا أراقب المفاوضات الشاقة إذا بصاحبي يدفع جزء من الثمن وهو يردد.. ويؤكد.. بعد غد..!! لا تنسى الموعد.. حتى قبيل الفجر.. ونحن لا هون.. ساهون.. غافلون..مضت الليلة كاملة لم نذكر الله ( فيها ولا مرة واحدة.. ربما أنها ليلة القدر.. حياة لا طعم فيها.. وسعادة لا مذاق لها.. ولجنا من المعاصي كل باب.. وهتكنا منها كل حجاب... وحسينا الأمر دون حساب.. إظهار للسرور والسعادة.. وضحكات تملأ المكان.. ولكن في القلب هم وغم.. والنفس تلحق بها حسرات ويحيطها نكد.. افترقنا قبيل الفجر.. يجمعنا الليل والسهر والعبث.. نلتقي على المعاصي وتجمعنا الذنوب.. نوم طويل.. يمتد من الفجر حتى العصر.. صيام بلا صلاة.. وصلاة بلا قلب.. ساعة الصيام التي استيقظ فيها قبل المغرب كأنها أيام.. أقطعها بالمكالمات الهاتفية العابثة.. وبقراءة الصحف والمجلات.. وأنا أنتظر موعد أذان المغرب حادثني بالهاتف أحد الأصدقاء.. وصوته متغير وقال: أما علمت أن عبد الرحمن مريض.. قلت.... لا.. مساء البارحة كان بصحة وعافية.. قال.. إنه مريض.. انتهت المكالمة.. والأمر لا يعني لي شيئاً.. سوى معلومة غير صحيحة.. والمؤذن يرفع أذان العشاء.. فإذا بالهاتف يناديني.. إنه الشقيق الأكبر لعبد الرحمن... قلت في نفسي ماذا يريد؟. هل سيؤنبني على ما أفعله أنا وعبد الرحمن؟؟!! أو أن أحداً أخبره بزلة من زلاتنا أو سقطة من سقطاتنا!!.. ولكن أتى صوته منهكاً مجهداً.. وعبراته تقطع الحديث... وأخبرني بالخبر.. مات عبد الرحمن.. بُهِتُّ ولم أصدق.. لا أزال أراه أمامي.. وصوته يرن في أذني كيف مات؟؟!! وهو عائد إلى المنزل ارتطم بسيارة أخرى قادمة ثم حمل إلى المستشفى.. ولكنه فارق الحياة ظهر هذا اليوم.. أذني لا تصدق ما تسمع.. لا أزال أراه أمامي..نعم أمامي بل اليوم موعدنا إلى السوق الفلاني.. بل وغداً موعد ثياب العيد.. ولكنه أيقظني من غفوتي وهز جوانحي وأزال غشاوة على عيني عندما قال: سنصلي عليه الظهر غداً.. أخبر زملائك!! انتهى الحديث.. تأكدت أن الأمر جدُّ لا هزل فيه.. وأن أيام عبد الرحمن انقضت آمنت بأن الأمر حق.. وأن الموت حق.. وأن غداً موعدنا هناك في المقبرة لا عند الخياط!! لقد ألبس الكفن وترك ثوب العيد.. تسمرت في مكاني.. وأُصبت بتشتت في ذهني.. وبدوار في رأسي.. قررت أن أذهب إلى منزل عبد الرحمن لأستطلع الأمر.. وأستوضح الفاجعة.. وعندما ركبت سيارتي فإذا شريط غناء في جهاز التسجيل.. أخرجته.. فانبعث صوت إمام الحرم من المذياع يعطر المكان بخشوعه وحلاوته.. أنصت بكل جوارحي.. وأرهفت سمعي كأن الدنيا انقلبت.. والقيامة قامت.. والناس تغيرت.. أوقفت سيارتي جانباً أستمع.. وأستمع.. وكأني أول مرة أسمع القرآن.. وعندما بدأ دعاء القنوت.. كانت دمعتي أسرع من صوت الإمام.. رفعت يدي تستقبل تلك الدموع.. وقلبي يردد صدى تلك العبرات.. وبارقة أمل أقبلت خلف تلك الدموع.. أعلنت توبة صادقة.. بدأتها بصحبة طيبة ورفقة صالحة.. من كرهتهم.. هم أحب الناس إليَّ.. من تطاولت عليهم.. هم أرفع الناس في عيني.. من استهزأت بهم.. هم أكرم الناس عندي... كنت على شفا جرف هار.. ولكن الله رحمني.. بعد فترة من الزمن.. هدأت نفسي.. أطلت سعادة لا أعرفها.. انشراح في القلب.. وعلى عيني سكينة ووقار.. فاجأت الخياط وسألته عن ثوبي.. سأل عن عبد الرحمن.. قلت له مات.. أعاد الاسم مرة أخرى.. قلت له.. مات.. بدأ يصف لي الرجل وسيارته وحديثه.. قلت نعم هو.. لقد مات وعندما أراني ثوبه بدأت أسترجع الذاكرة.. هل حقاً مات؟؟!! ثوبي بجوار ثوبه.. ومقعدي في السيارة بجوار مقعده.. ولكن بقي لي أجل وعمر.. لعلي استدرك ما فات.. حمدت الله على التوبة والرجوع والأوبة ولكن.. بقي أخ لي هناك.. لا يزال على عينيه غشاوة ويعلو قلبه ران المعصية.. هل أتركه؟!.. شمرت عن ساعدي.. لن أتركه.. أمامه نارٌ وعذاب.. وأهوال وصعاب.. لن أتركه.. وقد هداني الله.. هنا كتاب.. وهناك شريط.. وبيني وبينه نصيحة صادقة . إلا باب السماء (8) قال بعض السلف: من الذنوب ذنوبٌ لا يُكفرها إلا الغم بالعيال. ------------------------ قال محدثي يؤكد ذلك: إنها من صميم الواقع.. ليست من نسج الخيال.. ولا أسطورة من الأساطير.. أنا الأب.. وطفلي محور الحديث بعد انقضاء شهر رمضان ومع إطلالة العيد.ز لاحظت أن ابني عبد الله صاحب السنتين والنصف متعب ودرجة حرارته مرتفعة.. اختفت الابتسامة.. وذبلت النضارة.. ولم يعد صاحب الحركة والشقاوة.. أصبه الضعف فجأة.. نظراته زائغة.. وحديثه متقطع.. يبحث عن مكان ينزوي فيه.. فزعنا إلى الكمادات والمهدئات ريثما نبحث عن طبيب.. لكن الحرارة عادت مرة أخرى في الارتفاع.. ليس هناك خيار.. ولا وقت للتشاور.. تبادر إلى ذهني جميع المستشفيات.. ولكن نحن في إجازة.. قررت الذهاب به للطوارئ.. قلت لوالدته وأنا أحمله بي يدي.. لا تخافي.. كل الأطفال هكذا.. وتابعت حديثي لأطمئنها قبل أن أغلق الباب الطفل سريع المرض.. سريع الشفاء.. هدأي من روعك.. واتكلي على الله.. بعد سير متقطع من شدة الزحام تبهرك الأنوار في الخارج ثم تدلف إلى عالم آخر وأنت تصعد عتبات المستشفى.. والتسلط فيه.. الإنسان هنا ضعيفٌ.ز ضعيف.. هذا منكس الرأس.. وذاك ممسك بكلتا يديه على بطنه.. وصمت أنين تسمعه يقطع الصمت ولا ترى صاحبه أما الجرحى ونزف الدماء.. تراه بين حين وآخر يسبقه صوت سيارة الإسعاف في الخارج.. ثم لحظات وتقع عينك عليه.. لا تتذكر أن هناك شيئاً اسمه الصحة والعافية إلا إذا أتيت هنا.. في زاوية بعيدة.. صاحب الثمانين عاماً.. رجل مكتمل العمر تراه فقد كل شيء!! النظرات.. زائغة.. يمنة ويسرة.. تبحث عن طبيب.. عن دواء.. لا تُحس نعمة العافية إلا عندما ترى وتُشاهد.. ربما تجد صحيحاً معافى يسير ببط وكأنه يقفز ويجتاز البحار في عيون المرضى.. هانت حالة ابني عندما رأيت الأم يعتصر الجميع.. صُرف لنا أشكال وألوان من الأدوية.. تحسست طعم العافية وأنا أخرج من المستشفى.. في اليوم الأول تحسنت صحته قليلاً.. ولكن بعد نفاد الدواء عادت الحرارة.. عُدنا إلى الطبيب.. لمح في عينيّ وأنا أشرح حالة ابني الاضطراب والقلق.. طمأنني.. لا تخف.. وصرف لنا نفس الأدوية السابق!! نفرح بالدواء عندما يُصرف.. ولكن الحالة تعاوده.. تكررت المراجعة خمسة أسابيع متتالية ولكن بدون نتيجة.. ساورني الخوف.. ووالدته أكثر مني.. أصبح حديثنا هو.. بدأ الطفل يضعف وتقل شهيته للأكل.. يمشي ببطء ويحس بوجع في عظامه ولاحظت والدته اصفراراً في لونه.. ذهبت به إلى مستشفى خاص وفحصه استشاري.. سأل أسئلة كثيرة.. وقال بعد محاورة طويلة: هذه الحالة لا تحتاج لمجرد صرف الأدوية والفحص السريع.. لابدّ من تنويم وتحليل شامل.. أدركت أن في الأمر شيئاً وأن هناك أياماً طويلاً تنتظرنا.ز قَبلتُ جبينه وحملته إلى قسم التنويم.. بدأت تنهال عليه الحقن بأشكال وألوان مختلفة وهو يستنجد بي.. لا أملك إلا أن أُمسكه بقوة وأسلمه لتلك الحقن.. علا صوته.. وارتفع أنينه.. وسالت دموعه بعضها يسقط على يدي وأنا ممسك به.. تخاطبني تلك الدموع.. ما هذه القسوة يا أبي..؟ شيء في صدري يضطرم.. وبين أحشائي قلب يذوب.. دموعك يا بني.. ليست إلا نقطة في بحر آلامي.. يا بني.. أنا لست تمثالاً ولا قلبي حجر.. مرت بضعة أيام ونحن في ترقب.. كلما دخل علينا طبيب تلهفنا سماع جواب منه.. ننتظر كلمة تُحيي الأمل.. وتداوي الجُرح ولكن التحاليل على كثرتها لم تعط نتيجة واضحة!! الرد الوحيد.. المرض في الدم زاد تدهور صحة طفلي حتى لم يعد يقدر على الجلوس فضلاً عن الوقوف.. ونظرات شاردة تطاردني كلما أقبلت وسؤال في عينيه.. متى أخرج من هنا..؟! بارقة الأمل في علاجه تخبو وأنا أسمع الطبيب يحادث زميله: (رغم ضعفه الشديد لا نستطيع نقل الدم إليه لأن ذلك يؤثر على نتيجة التحاليل). ونحن في تلك الحال.. والأيام تسير ببطء وطفلي بدأ يفقد الحياة.. طلب منا الطبيب إجراء فحص لنخاع العظم.. فهو مصنع الدم في الإنسان وافقت بدون تردد وقلبي يعتصر ألماً وأنا أنظر إلى رأسه.. وجمجمته الصغيرة.. تلمست استدارتها بيدي.. وكأني أتلمس العافية.. تم تخدير الطفل وأخذت عينة من نخاع العظم.. وطُلب مني أن أجري هذا التحليل في مستشفى خاص.. سرت وأنا أحمل العينة.. عينيّ شاخصة.. وقلبي معلق برب السماء.. لا أذوق للحياة طعماً ولا للنوم لذة.. سلمت العينة للمختبر ومعها خطاب يحدد نوع التحليل المطلوب فرحت.. ربما أن نتيجة هذا التحليل تُنهي ألمه ومرضه.. في اليوم الثاني.. واللحظات تمر بطيئة ودقات قلبي تسابق عقارب الساعة.. عجزت عن التفكير في كل شيء.. تناولت سماعة الهاتف.. ربما أن التقرير وصل.. تحاملت على نفسي وسألت عن النتيجة.. أترقب العافية والشفاء لطفلي.. عادت أذني تطرب لضحكاته.. تذكرت جريه ليستقبلني.. جلوسه على ظهري.. قُبلتُه على جبيني.. في نشوة الفرح.. أجاب بكلمة مروعة.. شتت آمالي.. وبعثرت أحلامي.. فجرت الدم في عروقي.. وتركت صداها في أُذني.. نزف لها قلبي ودمعت عيني.. ورفعت إصبعي.. الحمد لله قال (إن مرض ابنك هو سرطان في الدم). لحظات طويلة قاسيت فيها الهموم.. اضمحلت الدنيا في عيني.. ولم تستطع قدماي السير.. سُدت الطرف أمامي.. وأُغلقت الأبواب في وجهي.. ولكن تذكرت.. هناك باب واحد لا يُغلق.. باب السماء. فرحت بهذا الثبات.. الحمد لله.. وأكملت.. إنا لله وإنا إليه راجعون تداركت نفسي.. تحركت خطوات ثقيلة.. دارت في ذهني أسئلة لها أول ولا أعرف لها آخر.. سأودع ابني قريباً كيف سأخبر والدته وأخوته؟ بل كيف سأنظر إليه؟ أي نظرة وداع.. أم نظرة رجاء..؟! أسرعت أسئلة متلاحقة تطرق قلبي ثم قفز سؤال شدني من مكاني.. قفز بقوة أجري هل سألحق به في المستشفى..؟ أم أنه توفي..؟ مشاعر متقلبة.. وأسئلة مضطربة.. حملت قدماي أسير في طرقات المستشفى أجمع أطراف الكلام.. والدته بجواره.. بفرح.. بشر ما هي النتيجة؟ ماذا أجيب.. حيرتي أكبر من حيرتها.ز وحاجتي للسكوت أكبر من حاجتها للجواب.. ذبول وشحوب يخيم على سرير ابني.. أستعجل اللحظات والدقائق.. ربما ينقل إلى الرياض.. لحظاتٌ بسنوات.. ودقائق بأعوام.. تمر ببطيئة ثقيلة.. ثم نقله بعد جهد وعناء.. في مساءٍ طويلٍ.. والحديث طويل.. الحزن يلف رداءه حولنا.. والألم ناصبٌ رايته في قبلوبنا غداً عيد الأضحى.. زمانٌ بين عيدين.. عيدٌ بأي حال عدت يا عيد اصبر واحتسب.. ما قدر الله كان.. مسحت الحزن على قلبي ودعوت الله دعوة موقنٍ بالإجابة في ثاني أيام العيد.. صرخات الأطفال تصل إلى مسامعي.. وأصوات الحديث تعلن الفرح بالعيد.. والتهنئة على كل لسان الأمر لعبد الله مختلف.. يتلوى على فراشه من الألم نظرتُ إليه وهو على سرير المرض.. يتقلب.. لا يستطيع الحركة.. فتح عينه بصعوبة ليتأكد من وجودي.. نظرات غير مفهومة.. مسحت دمعة في عيني لِما أرى.. تحكي حالي وألمي.. ابنـي الصبـر آيات أراها وإنني أرى كل حبل بعـد حبلك أقطعا وإنّي متى ما أدع باسمك لا تُجب وكنت جديـراً أن تُجيب وتسمعا اليوم يبدأ علاج ابني بالعلاج الكيميائي.. وما أدراك ما العلاج الكيميائي؟! حُقن تُعطى مع المغذي في الدم لتُمر الخلايا الخبيثة ومعها الخلايا الطيبة.. العلاج طويل ومركز يستمر ثلاث سنوات.. في الشهر الأول من العلاج.. نوّم طفلي شهراً كاملاً ليصارع المرض ويحتسي ألم الدواء الكيميائي بعد ثلاث أسابيع.. هناك تحسن بسيط بدأ يمشي مشية بطيئة مهزوزة.. وأشار علينا الطبيب بإمكان علاجه في مدينتنا..بعد أن رأى المشقة التي أعانيها من مكوثي وحيداً مع ابني.. وأمه وأخوته هناك.. حملت طفلي مغادراً المستشفى.. حملني همّ وغمّ.. طفل يصارع الموت.. وأم تصارع الأحزان.. وأب يصارع الحياة.. وسؤال في عين طفلي.. أين تذهب بي يا أبي.. أما تعبت من حملي..؟ المستشفى آخر أم إلى بيتنا..؟ أريد أن أرى أمي.. أقمنا مدة واضطررنا إلى العودة بعد شهرين وفي الأسبوع الأول من إقامتنا أجري تحليلاً آخر.. الفرح يُعطر المكان.. والسعادة تحوم حولنا.. ولكن المفاجأة.. أتت بصوت قوي انتكست حالة الطفل.. مرحلة انحدار خطرة.. أصابني إعصار الفوضى.. ماذا أفعل.ز كيف أتصرف؟ لقد بدأت الخلايا السرطانية تعاود نشاطها من جديد.. لابدّ من إعادة برنامج العلاج من جديد.. وبتركيز أشد.. تأثر الطبيب وهو يقرأ التقرير ثم أردف وكأنه ينعى إليّ ابني.. إن شئت نبدأ بالعلاج من جديد هنا.. أو تعود إلى جدة.. قلت له بل هناك في جدة أمسكت تقرير ابني في يدي.. وخرجت بطفلي من المستشفى وصوت الطبيب يُلاحقني.. عليك بسرعة العلاج وعدم الإهمال.. حالة الطفل خطيرة.. طرقت أبواب المستشفيات.. تحمل ابني من الإبر ما لا يتحمله رجل كبير.. لم يبق موضع لإبرة جديدة.. يحتار الطبيب أين يضع إبرته.. قاسي من الآلام.. ومن البعد عن والدته وأخوته الكثير.. تعرف على وجوه الأطباء وعلى أنواع الأدوية.. أما أنا.ز فقد حفظت كل شيء في المستشفيات.. أصبحت يستنجد بي من شدة الألم ولكن ليس الأمر بيدي يا بُني.. كل الأبواب طُرقت إلا باب الله.. وكل الأبواب أُغلقت إلا باب الله.. (أمَن يّجيبُ المضطر إذا دعاه ويكشف السوء) سمعت في تلك الفترة عن شيخ يرقي بالقرآن وأشار علي بعض الاخوة بذلك.. الحمد لله.. والقرآن فيه شفاء.. تنازعتني الأهواء.. كثر الحديث.. تشتت ذهني.. كيف سأترك الطب الحديث.. ربما.. وربما؟! استخرت الله قبل أن أذهب.. نمت تلك الليلة فرأيت في المنام أني أقف على شاطئ البحر وكانت المياه على الشاطئ ضحلة.. وفي جزء معين كانت الأرض ظاهرة للعيان قد انحسر عنها ماء البحر، وفجأة تظهر حفرة في طين البحر.. يخرج منها ما يسمى سرطان البحر ويذهب بعيداً.. استيقظت وكانت نفسي منقبضة تلك الليلة من خبر انتكاس المرض.. حدثت بتلك الرؤيا من أثق به.. قال.. أبشر لعله خير إن شاء الله.. فالطين هو ابن آدم والسرطان يخرج منه إن شاء الله استشرت خيراً وقررت الذهاب إلى الشيخ ليرقي ابني بالقرآن.. في زحام المرضى.. هناك راحة نفسية تشعر بها.. وقصص العافية تزين المكان.. بارقة أمل أطلت عليّ.. سحابة خير أظلتني.. تمت الرقية على ابني.. وطلب مني المراجعة ثلاث مرات كل أسبوع.. وأوصاني أن أقرأ بنفسي عليه آيات من القرآن قررت إيقاف العلاج بالمستشفى.. لعدم تمكني من إخراجه عندما يبدأ علاجه بالكيميائي مرت ثلاثة أسابيع.. تحسنت فيها حالة ابني.. في كل موعد أسافر من جدة إلى الرياض ثم أعود.. عانيت من التعب والمشقة الكثير.. وعندما انقضت مدة الرقية وهي ثلاثة أسابيع.. قررت العودة للمستشفى.ز ولكن لابدّ من الانتظار لحين فراغ سرير.. سجلت رقم هاتفي لدي المستشفى وأعطيت أولوية الدخول نظراً لتأخري في العلاج.ز ووضع الطفل كما ذكروا لا يسمح بإضاعة دقيقة واحدة.. أيام معدودة.. فإذا بالهاتف ينادي.. عليك الحضور سنأخذ عينة لنخاع العظم على أن يكون الطفل صائماً.. أخذت ابني.. وأخذتني الحيرة.. وتبعتها آلام الصغير وصراخه.. أقبلت على المستشفى.. وأنا أدعو الله أن لا يعيدنا إليه مرة أخرى أخذت العينة.. وعدت للمنزل.. حدثنا.. بين التحليل والنتيجة؟! أسبوع كامل.. تركنا الأمر للتفسير.. ماذا؟ وأين؟ في موعد التحليل أسرعت بي أقدامي.. أحسست أن هناك خيراً ينتظرني.. جلست مع الطبيب لأسأله.. فكان جوابه الذي هزّ أعماق قلبي.. تأكدت أنني أعي ما يقول.. أرهفت سمعي.. وأسكنت جوارحي.. في زمن لم يعد للفرحة في قلبي مكان بحثت عن ابني يمنة ويسرة.. لأقبله.. لأنظر في عينيه.. لأمسح دمعته.. التفت إلى مكان لأسجد سجدة الشكر لله.. ومن أحق منه بذلك (بعد أن كانت عند الانتكاسة بليونين من الخلايا على أقل تقدير لا أثر الآن للخلايا السرطانية) واستطرد الطبيب يسمى هذا بوضع الكمون.. أي عدم ظهور أي خلايا في التحليل.. ويجب وضعه تحت الملاحظة تحسباً لأي أعراض.. أسرعت خارجاً.. التفت أبحث عن هاتف لأخبر زوجتي.. ولكن خطواتي أسرع من نظري.. حمدت الله على نعمة الإسلام.. ونعمة إنزال القرآن.. سقطت دموعي حُزن أياماً طويلة.. أما الآن.. ليست دموع فرح فحسب.. بل فرح وشكر استرجعت الذاكرة (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أو لم يكفِ بربك أنه على كل شيء قديد) رأيت هذه الآية في نفسي.. هنا بين أكوام التقارير والأرقام والتحاليل.. بين بكاء الطفل وحزن الأم.. وهم الأب.. صدق الله إذ يقول: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين). طريق الدعوة (9) بغض الحياة وخوف الله أخرجني *** وبيع نفسي بما ليست له ثمنا إني وزنت الذي يبقى ليعدله *** ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا ----------------- الحمد لله الذي جمعنا في هذا المكان.. لا نعبد صنماً ولا نطوف بقبر ولا نقدس شجرة.. الحمد لله الذي جمعنا على التوحيد نعبد واحداً أحداً.. فرداً صمداً.. لا ند له ولا شريك هناك أيها الأحبة.. ُيعبد الحجر من دون الله.. يُطاف على القبور.. ويتوسل بالأموات.. هناك.. الجهل ضاربٌ أطنابه.. تعشعش الخرافة.. وتنتشر البدعة.. ويخيم الشرك.. أين أنتم يا أهل الإسلام من تبليغ الدعوة..؟ ما لكم تأخرتم عن الركب..؟ من يحمل هم الدعوة سواكم وأمثالكم..؟ إنصات.. ترقب.. والشيخ واقف كالرمح بعد صلاة التراويح يتحدث.. كلماته تعطر المكان.. تلامس القلوب.. تحرك المشاعر وتشحذ النفوس.. تحسست محفظتي.. إنها دعوة للتبرع.. ولكنه توقف قليلاً.. يسترجع الأحزان من تقصير شباب الأمة وكأنه يحدثني.. لم آت هنا لجمع الأموال.. أتيت لأستحث الهمم وأذكركم بواجب الدعوة إلى الله.. كان سلفنا الصالح يقطعون الفيافي والقفار لتبليغ الدعوة.. وتصحيح المعتقد.. الآن.. وكل وسائل الدعوة ميسرة.. ماذا قدمنا..؟؟ لا أدعوك أخي لتبذل كل وقتك.. لا.. بل فضل وقتك.. ما زاد من وقتك اجعله للدعوة.. كانوا رحمهم الله يهبون كل أوقاتهم للدعوة.. وما فضل منها للدنيا.. رغم كثرة عدد المصلين.. وإنصات الجميع.. أحسست أنه يحدثني وحدي.. ويستحث خطاي.. تركت محفظتي.. أخرجت يدي من جيبي.. وأنا أردد.. هذه دعوة التوحيد.. تحتاج إلى رجال.. حال المسلمين يرثى له...؟ خرجت من المسجد وعيني تبحث عن ذلك الشيخ.. وعندما صافحته.. كانت الكلمات تسبقني.. أين الطريق... سأذهب للدعوة.... فأنا طبيب... قررت وبدون تردد... السير في طريق الدعوة إلى الله... تركت رحلتي إلى كندا حيث رسالتي للدكتوراه.. قررت أن أؤجلها ستة أشهر.. جريت في الدعوة... صعدت الجبال... وزرت السهول... رأيت عبادة القبور... والطواف بها... والذبح على عتباتها .... رأيت البدع والخرافات... ورأيت شباب النصارى تحت الشمس المحرقة... والأوبئة المنتشرة... يبذلون كل شيء في سبيل التنصير..!!! مرت الأيام سريعة وأنا حركة لا تهدأ.. ونشاط لا يفتر... ثم بعد نهاية المدة.. استخرت الله... أين أتجه؟ وأين أسير..؟؟ جلسة هادئة... وتفكير عميق... وماذا بعد... لو أنهيت دراستي وأنا على حالي السابقة... وحصلت على شهادة الدكتوراه... ثم ماذا؟؟ تذكرت دعوة الله ..( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض( .. سارعت إلى جنة عرضها السموات والأرض في كل يوم دعوة ترتفع إلى عنان السماء.. حيث يزرع الإيمان في القلوب... وتنار الطرق والدروب.. إنها رحلة الدعوة.. إنه سباق إلى الخير.. حيث تبليغ الرسالة والسير على منهج الرسول ( تألمت وشباب الإسلام أيامه تضيع.... وأوقاته تهدر والمسلمون في أشد الحاجة إلى من يعلمهم ويفقههم إنها دعوة للسير في طريق الدعوة يُعلم الجاهل... وينبه الغافل....ويُعبد الله بما شرع في صدر هذه الأمة سباق إلى الخير... أين نحن منه؟؟ لاتنسونا بصالح دعوات لمزيد من قصص اسلامية وبرامج اسلامية تفضلو علي admot@nimbuzz.com